الشيخ صلاح الجودر
أمَّا بعدُ: فأُوصيكُمْ - عباد الله - ونفسِي بتقوَى اللهِ عز وجلَّ امتثالاً لقَوْلِهِ
تعالَى:(يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أيُّها الإخوة المؤمنون، إن ديننا الإسلامي
الحنيف دعا إلى التحلي بالأخلاق الحميد والصفات الفاضلة، فهذا الدين قائم على
العفو والصفح والتسامح، وقد كان رسولكم الكريم قدوة في ذلك، يعفو ويصفح ويسامح ويتجاوز،
مع كل الناس، وعندما سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه عن خلق النبي قالت: لَمْ يَكُنْ
فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحِّشاً وَلاَ صَخَّاباً فِى الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَجْزِى
بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ.
عباد الله، والعفو والصفح فضل عظيم عن الله، وهي تحقيق للمصالح بين الناس وإشاعة الحب والمودة بينهم، قال تعالى: ( وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)،
فالعفو هو طريق التقوى التي ينشد العبد، قال تعالى:( وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، لقد كان رسول الله غاية في التسامح والعفو حتى مع اعدائه، فحينما فتح مكة قال لمن آذوه وأخرجوه
من مكة: (يا
مَعْشرَ قريشٍ ما تَظُنُّونَ أنِّي فاعِلٌ بكُم؟)، قالوا: خيراً
أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: (فإنِّي
أقُول لكُمْ كمَا قالَ يوسفُ لإخوَتِه {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ} اذْهَبُوا فَأنْتم الطُّلَقَاءُ).
عباد الله، لقد تمثل التسامح في رسول الله، فقد استخدم التسامح حتى مع الكفار والمنافقين، فقد عفا عن رأس المنافقين ابن أبي سلول، وزاره وهو مريض، بل وصلى عليه لما مات،
ونزل في قبره وألبسه قميصه، أي درجة من التسامح تلك رغم مالقيه من أذى في عرضه يوم حادثة الإفك، فيقول عمر: أتصلي عليه وهو الذي فعل وفعل؟ فيقول: (يا عمر، إني خُيّرت فاخترت قد قيل لي: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن
يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ"،
ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت) [البخاري]، فنسخ جواز الصلاة عليهم
بقوله تعالى: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ
عَلَىَ قَبْرِهِ) [التوبة: 84].
أيها الإخوة، ويرافق العفو التسامح وهو كلمة تعني الصفح والتجاوز، فهي قيمة أخلاقية، وهي اساس التعامل بين الناس، فغياب التسامح ينذر بظهور التشدد والغلو والتطرف
والعنف والإرهاب، لذا يدعو ديننا إلى التسامح حتى مع أولئك المختلفين معهم، لذا
نجد النبي يقول: (ألا من ظلم معاهداً أو انتقض أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه
شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة) [أبوداود].
عباد الله، من المتواتر عند أهل التاريخ والسير أن أصحاب الديانات النصرانية واليهودية والمجوسية والصابئة قد عاشوا بين المسلمين قرون طويلة، محفوظة كرامتهم وحقوقهم
وذممهم وعهودهم، فلم يفعل المسلمون كما فعل (فرناندو) مع المسلمين في الأندلس حين اقام محاكم التفتيش، ولم يفعلوا كما فعل لويس الرابع عشر الذي اعتبر البروتستانت ديانة
محرمة، ولم يفعلوا كما فعل الإنجليز الذين منعوا اليهود من دخول أراضيهم
لأكثر من ثلاثمائة وخمسين سنة، فالمسلمون
بتاريخهم الطويل لم يقوموا بتلك الأفعال رغم انهم حكموا العالم لأكثر من عشرة
قرون، وهذا قائم على قيمة التسامح.
أيها
الإخوة، إن أمة الإسلام هي أمة الوسطية والاعتدال والتسامح والتعايش، بهذه القيم
تسمو الأمة وتعلو بين الأمم وتصبح أخلاقها شاهدة على حضارتها، فهي رافضة لكل
مفاهيم العنف والحقد والكراهية والاعتداء على الغير.
اقول
قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه وهو الغفور
الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا
عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله، إن عالم اليوم في حاجة إلى نشر ثقافة التسامح والتعايش والحوار بين الأديان، فالعالمي يشهد ظهور جماعات الإرهاب والعنف مما يدفع إلى صراع الحضارات،
والانزلاق إلى مزيد من والحروب والصراعات، والله أمرنا أن نعمر الأرض ونكون خلفائه فيها، ، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا
إن أكرمكم عند
الله أتقاكم إن الله عليم خبير) [الحجرات: 13].
وأعلموا - عباد الله - أن البحرين اليوم تعتبر نموذج للتسامح والتعايش الإنساني، فالعالم يشهد هذا التنوع الديني والمذهبي والثقافي، وهو يشهد بهذه المكتسبات التي بلغتها البحرين
في عهد جلالة الملك المفدى حفظه الله ورعاه، من هنا فإن المسئولية تحتم على الجميع نبذ
العنف والكراهية وتعزيز صور التسامح والتعايش والدعوة تعزيز الوحدة والاتحاد
الخليجي لمواجهة الأخطار المحدقة بالمنطقة.
فاتقوا الله عباد، واحسنوا
فإن الله مع المحسنين.
جامع الخير - البحرين
18-11-2016
0 تعليقات