البحرين وطن التسامح والتعايش

 

البحرين وطن التسامح والتعايش

بقلم: صلاح الجـودر


الحضارات الإنسانية لا تبلغ مقاصدها، ولا تظهر سمو أهدافها إلا حين تشيع ثقافة التسامح والتعايش والتعارف والتحاور بين أفرادها وجماعاتها، وعلمائها وعامتها، وهذا المسلك الحضاري تواطأت عليه جميع الشرائع السماوية، الإسلام والنصرانية واليهودية، وتنزلت به جميع الكتب السماوية، القرآن والإنجيل والتوراة والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى، وتجلت في الثقافات والحضارات الإنسانية المختلفة، وهي التي تقرها الفطر السليمة، والعقول الحكيمة، لذا جاء في محكم التنزيل: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) [الحجرات:13].

اليوم والجميع يرى أن الصراع في العالم يتزايد، والمطامع البشرية تتعاضم، احتراب وصدام وتخريب وتدمير، واحتقان في بقع من الأرض كثيرة، فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان والسودان واليمن والجزائر وغيرها كثير، مئات القتلى والجرحى، وآلاف من المشردين والجوعى، دور ومنازل ومدارس هدمت، ومساجد وكنائس ومعابد دمرت، وحقول ومزارع وبساتين جرفت، أسلحة فتاكة، وصواريخ مدمرة، أصبحت هي عنوان القرن الحادي والعشرين، فهل هذه هي الأرض التي أورثها الله تعالى للإنسان لخلافته؟!.

إن موجة التخريب والتدمير، والعنف والتطرف والإرهاب التي يشهدها العالم بأسره تتطلب من أتباع الديانات السماوية إلى وقفة صادقة مع النفس، ونقد بناء للذات، ومراجعة حثيثة للمواقف، ولنتساءل جميعا أين نحن من قضايا الأمن والاستقرار، وأين نحن من ظواهر الفقر والجوع والبطالة والجهل؟، بل أين نحن من ملفات البيئة والتلوث والمخدرات والعنف الأسري؟، جميعها أهملت في مقابل سموم وأدواء العصر التي بدأت تنهش في عقول الشباب والناشئة، لقد ثبت للعالم بأن آلة الحرب لا تستطيع أن توقف جماح التطرف والعنف والإرهاب، ولكن العلاج يتمثل في نشر ثقافة التسامح والتعايش والحوار، والعدل والإنصاف وحفظ كرامة الإنسان مهما كان معتقده أو مذهبه أو فكره.

فالمحاورة وسيلة مهمة من وسائل التواصل مع الآخر المختلف،  فالحوار أداة تواصل بين أطراف عدة، متفقين كانوا أو مختلفين، تتحد فيه الآراء، وتستعرض فيه المسائل، وتبرز من خلاله صور التسامح والتعايش والتعارف والتعاون، وهذا هو طريق النضج، وسبيل الكمال، ولن يتم تصحيح الأخطاء وتدارك النقص إلا إذا اتسعت الصدور للحوار، وروضنا الأنفس على قبول الرأي والرأي الآخر، ولن نحترم عقولنا بحق إلا إذا احترمنا عقول الآخرين، فالحوار يدعوننا إلى أن نحترم الأديان السماوية والثقافات الإنسانية، فلا نتعدى على دين أو مذهب، ولا نتطاول على نبي أو مرسل، وأن نعيد الحقوق المغتصبة لأصحابها، وفلسطين في مقدمتها، يجب علينا أن ننزع فتيل الصدام والاحتراب بإشاعة ثقافة التسامح والتعايش والتعارف والحوار.

الذي ينقص البشرية اليوم باختلاف أديانها ومذاهبها وثقافاتها ليس هو معرفتها لدورها الحضاري، ولكن الذي ينقصها هو إشاعة ثقافة التسامح والتعايش والتعارف والحوار فيما بينها، والسؤال الذي يطرح نفسه، هو هل يمكننا أن نشيع التسامح والتعايش والتعارف والحوار دون اجتماع أو لقاء فيما بيننا؟!، هل يمكننا أن نشيع هذه المفاهيم في الوقت الذي نشكك في نوايا ومقاصد الآخرين؟!، قد يتذرع البعض منا باستجلاب صفحات من التاريخ المأزوم، حروب وصدامات وتصفيات، ويتغاضى عن صفحات التسامح والتعايش والحوار، لذا يرى انه لا سبيل للحوار واللقاء إلا مع المتفقين معه عقائديا وفكريا وعرقياً، والحقيقة أن العزلة والانزواء تزيد في الفجوة، وتوسع من الهوة، والإنسانية اليوم لا تنشد حوار أتباع المذاهب في الدين الواحد فقط، ولكنها تتحدث عن حوار أتباع الأديان والثقافات، تتحدث عن المشتركات بين أتباع هذه الديانات من أجل التعايش فيما بينها، فالأنبياء جاءوا من مشكاة واحدة، قال تعالى( لا نفرق بين احد من رسله)، والرسل والأنبياء بعثوا ليصححوا عقائد الناس ويتمموا مكارم الأخلاق لا أن يزرعوا فيهم الحقد والكراهية والعنف والتخريب.

لقد حمل الدين الإسلامي لواء الدفاع عن الإنسان في العيش بأمان مهما كان معتقده أو مذهبه أو فكره، وحذر من المساس بالضرورات الخمس، المعتقد والفكر والنفس والمال والعرض، فقال تعالى:(ولقد كرمنا بني آدم)[الإسراء:70]، ففتح الإسلام بهذه الآية وغيرها من الآيات الكريمات صفحات من التاريخ المشرق مع أتباع الديانات والثقافات الأخرى على مبدأ التعايش والتسامح والتعارف والحوار، ولنستذكر أن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام قد بنا علاقات إنسانية راقية مع المختلفين معه، فخاطب ملك الروم، وأرسل أصحابه إلى نجاشي الحبشة، وتزوج من مارية القبطية، وتزوج من صفية بنت حيي بن أخطب اليهودية، ومات ودرعه مرهون لدى يهودي، بل أن مجتمع المدينة كان مزيجاً من النصارى واليهود والوثنين، وما هذه الصور إلا تأكيد على نشر ثقافة الحوار لا الصدام.

ونحن في هذا الوطن تتجلى صور التسامح والتعايش بين الناس منذ مئات السنين، وقد كانت ولا تزال لأبناء هذا الوطن إسهامات في تعزيز هذا الجانب، ويكفي الفرد منا أن يتأمل في محيط العاصمة المنامة ليرى ذلك الكم الهائل من المساجد والمآتم والكنائس والمعابد في نسيج اجتماعي جميل، وأتباع كل ديانة أو مذهب يمارسون عبادتهم وشعائرهم وطقوسهم بكل حرية وفق الدستور والقانون وما تعارف عليه الناس في هذا الوطن، وما كان هذا التعايش إلا سمة أكتسبها أبناء هذا الوطن وقاموا بتعزيزها، وجاء مشروع جلالة الملك ليؤكد على هذا الخيار الحضاري ويدعمه بمبادراته الإنسانية، فنادا لقيام مرصد الحوار الديني، وإنشاء أمانة عامة للحوار بين الأديان في المنامة.

من هنا فإن المفصل التاريخي الذي نعيشه يحتم علينا أن نرسل رسالة للعالم ندعوه بدعوة صادقة لنشر ثقافة التسامح والتعايش والتعارف، ونبذ العنف والتطرف والإرهاب، وتعزيز الأمن والاستقرار، والعمل في إطار القواسم المشتركة. فنحن جميعاً نتحرك في سفينة واحدة في بحر متلاطم الأمواج، فلا نريد أن تزداد هذه السفينة خروقاً يوماً بعد آخر.


 صحيفة الأيام البحرينية،  الأيام عدد 7180 تاريخ 5-12-2008


 


إرسال تعليق

0 تعليقات