الشيخ صلاح الجودر
الحمد لله، المبدع الخالق، الباسط الرازق،
رافع السبع الطوابق، ومرسي الأرض، أحمده سبحانه واشكره، تكفل برزق جميع الخلائق،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده
ورسوله، صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، والتابعين
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد،، فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى
الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وأجيبوا داعي الله في العبادة والتقى، واحذروا
داعي النفس في أتباع الهوى، ألحوا في دعاء ربكم وسؤاله، وتعرضوا لفضله ونواله،
وتقربوا بالصالحات لعلام الغيوب، من عرف ربه بالرحمة رجاه، ومن عرفه بالانتقام حق
له أن يخشاه، قال تعالى:(فأما من طغى* وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيم هي المأوى*
وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى) [النازعات:37-41].
أيها المسلمون: الاختلاف بين الناس سنة من
سنن الله تعالى، فكما اختلفوا في ألسنتهم وألوانهم وأشكالهم، اختلفوا في أرائهم
وأفكارهم وقناعاتهم، وأقترن باختلافهم زلاتهم وأخطائهم، (فكل أبن آدم خطاء وخير
الخطاءين التوابون)، فهم خطاءون في شئونهم كلها، وفي أحوالهم جميعها، وهذا ما صح
عن نبيكم محمد، فإذا كان الاعتراف بالخطأ طريق التصحيح والتجديد، فإن سبيل العيش
بين الناس -باختلاف أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم وأعراقهم- هو التسامح والحوار والإحسان،
وكلما سلمت النفوس من الأحقاد وحب الآنا والذات، وتحررت من تعصبها الأعمى كانت
أقدر على بناء العلاقات الطيبة والروح المتسامحة مع المختلفين.
أيها الأخوة، إن دفع العدوان بالإحسان،
ومقابلة الإساءة بالحلم مبادئ كبرى تؤكد المشاعر الجميلة في النفوس المشرقة، صبر
وتحمل وعفو وتجمل، ينقلب معه الخصم والعدو إلى صديق حميم.
أيها المسلمون، أمتكم اليوم على أبواب فتنة
عمياء، بإشاعة ثقافة العنف والتخريب والتدمير هي في حاجة ماسة لإظهار صور التسامح واتساع
الصدر وحب الخير ومسلك الرفق.
معاشر الأحبة، إن إنسانَ اليومَ في حضارةِ
اليومِ لم يعد إنسانا سوياً لأنه متأثرٌ بحضارةٍ مليئة بدعوات الحقد والكراهية والبغضاء،
فهو لا يتصورُ العيشَ إلا قوياً ظالماً، أو ضعيفاً مظلوماً، فمن أجل أن يتخلص من
بلاء العصر فهذا نداء مخلص موجه لكل فرد على هذه البسيطة، إنها دعوة الله ودعوة
نبيه محمد: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) [آل عمران:64]، بل
هي وصية جميع الأنبياء لأتباعهم، فلا خلاف فيما قاله نوح وإبراهيم وموسى وعيسى
ومحمد وغيرهم من أنبياء الله، قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي
أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)
[الشورى:13]، إنها دعوة للوحدة، ونبذ الخلاف والتفرق.
عباد الله، وفي ضل التشويه المتعمد الذي تتعرض
له أمتكم، بإلصاق التهم وقلب الحقائق وإطلاق الأكاذيب والإشاعات المغرضة، نجد أن
آخر صرعات التشويهات هو الادعاء بأنها لا تراعي حقوق الإنسان، ولا توجد لديها حرية
دينية لأتباع الأديان والمذاهب!!، وهذا أدعاء باطل تكذبه الحقائق والدلائل التي
على أرض هذا الوطن والكثير من الدول الإسلامية والعربية.
أيها الإخوة، في الوقت الذي نرى الدول
الغربية وهي تضيق على الأقليات المسلمة، وتنال من عقائدها وثوابتها، وما يحدث للمسلمين من اضطهاد في بعض الدول الغربية بوضع قوانين
خاصة للمهاجرين إليها حسب اللون والعرق والدين، في هذا الوقت بالذات نرى ما يتمتع
به هذا الوطن - كنموذج للتسامح الديني - ذلك التسامح في المسجد والمأتم
والكنيسة والمعبد في جوار بعضهم البعض، بل وفي المجالس والمنتديات، هذا هو وطنكم
المتميز بهذه التسامح الجميل.
عباد الله، التسامح الديني الذي نتحدث عنه يدعونا
لفتح قنوات الحوار مع المختلفين، دينيا وسياسياً واقتصاديا واجتماعيا، وأن نبدأ
بنقل صور التسامح من محيطنا المحلي إلى الفضاء الخارجي ليكون هذا الوطن أنموذج
عالمياً في التسامح، وهذا الفعل ليس فيه غضاضة، فقد سبقكم إليه سلف الأمة، من
الصحابة وآل بيت النبي الذين ساروا آلاف الأميال لينقلوا هذه الصورة، فهذا جعفر بن
أبي طالب، وخليفة بن دحية الكلبي وغيرهم، فحاوروا عظيم الروم وكسرى فارس ونجاشي
الحبشة والمقوقس عظيم القبط وغيرهم، لماذا قطعوا كل هذه المسافات؟، هل من أجل الارتهان
للأجنبي؟، هل من أجل تشويه الحقائق؟، لا ولكن لينقلوا للعالم صور التسامح الديني
في بلاد المسلمين.
عباد الله، حاجتنا اليوم لفتح قنوات الحوار
في أكثر من اتجاه، حوار بين الأديان، وحوار بين المذاهب، وحوار بين السياسيين،
وحوار بين الاقتصاديين، وحوار بين أصحاب الفكر والرأي والقلم، وحوار بين الخطباء
والدعاة، عليهم جميعاً أن يتحاوروا فيما بينهم، وأن يزيلوا الحواجز الضبابية،
والسواتر الوهمية، بل وفتح القنوات مع أطياف المجتمع المختلفة، ولنا في رسول الله
أسوة حسنة حينما حاور ذلك اليهودي الذي رهن درعه من أجل أن يشتري شعيراً لأهلة،
وهذه الحادثة ترشدنا إلى أمرين، الأول إلى صورة التسامح الديني في المدينة الذي
جمع المسلم والنصـراني واليهودي، والثاني أن التحاور من أجل المصالح
المشتركة، مثل نبذ العنف والتطرف والإرهاب، وتعزيز الأمن والاستقرار.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي لكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين،
ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا
ونبينا محمد وعلى آله وصحبه.
عباد الله: إننا في هذه الأيام نتقلب في نعم الله وافرة، وخيرات
عامرة، وشجرنا يثمر، وأرضنا تخضر، فما لنا لا نشكر، وبحسن صنع ربنا بنا لا نعتبر
إن في قصة المطر لعبراً، وآياتٍ ذكرها ربنا في كتابه فلنعتبر بها ولنشكر ربنا، قال تعالى: (وأسقيناكم
ماءً فراتاً) [المرسلات:27]، وقال:
(فلينظرِ الإنسانُ إلى طعامه
أنا صببنا الماءَ صباً *ثم شققنا الأرضَ شقاً *فأنبتنا فيها حباً *وعنباً وقضباً *وزيتوناً ونخلاً *وحدائقَ غلباً *وفاكهةً وأباً *متاعاً لكم ولأنعامِكم) [عبس:24-32].
اللهم فارزقنا الخشية منك. اللهم اجعلنا من أهل الخشية منك. فمنك
ماؤنا، ومنك طعامنا، فلك الشكر ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت (أولم يروا أنا
نسوق الماء إلى الأرض الجُرُز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون).
عباد الله، من أراد السعادة فلا سعادة إلا
بالتسامح، ولا طمأنينة بغير إيمان، والخير والبركة والرخاء لا تكون بغير أخلاق،
ولا أخلاق بغير إيمان. وأفضل الطاعات مراقبة الله على دوام الأوقات.
التسامح خصلة حميدة وصفة كريمة، تهب إلى
أصحاب القلوب الكبيرة ممن أفاض الله عليهم من رحمته من طاقات من الصبر على
المكاره، وتحمل الأذى، والقدرة على مقابلة السيئة بالحسنة، (وما يلقاها إلا الذين
صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم).
جامع الخير قلالي - البحرين
24-10-2008
0 تعليقات