خطبة التسامح الديني والحوار الوطني
الشيخ صلاح الجودر
الحمد لله الذي كتب على نفسه الرحمة فهو الرحمن الرحيم، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، النبي المصطفى والمبعوث رحمة للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه الأخيار، وآله الأطهار، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد..
أيها المسلمون، قال تعالى: (هو الذي بعث في
الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهُم الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا
من قبل لفي ضلالٍ مبين)[الجمعة:2]، لقد أرسل الله تعالى لهذه الأمة نبياً ورسولاً يأمر
بالعدل والقسط والإنصاف، وينهى عن الظلم والجور والتعدي، (لا فرق
لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)، نبي هذه الأمة يدعو للتعايش
الإنساني والتسامح الديني بين البشر باختلاف أديانهم ومعتقداتهم وألوانهم
وألسنتهم، فالجميع من نفس واحدة قال تعالى: (يا أيُها الناسُ اتقُوا رَبَكمُ الذي
خلقكم من نفسٍ واحدةٍ﴾[النساء:1].
وعالم اليوم - عباد الله - أحوج ما يكون لهذا التسامح الديني، فجميع
الصراعات والحروب كان منشئها ذلك التعصب الديني، أما اليوم والعالم يسعى للأمن
والاستقرار بعد أن تحول إلى قرية صغيرة بسبب ثورة التكنولوجيا وتقنية المعلومات
فإن التسامح أصبح هو نقطة الارتكاز في العلاقات بين شعوب العالم، والإسلام بمبادئه
وقيمه وتعاليمه العظيمة قد ربى أتباعه على ثقافة التسامح مع المختلف عقائديا
ومذهبياً وفكرياً، فقد جاء عن نبيكم محمد (ص) انه قال: (دخل رجل الجنة بسماحته) صحيح
الترغيب والترهيب للألباني.
عباد الله، لقد وجه القرآن الكريم هذه الأمة إلى انتهاج مسلك التسامح
مع المختلفين، قال تعالى: (لا ينهاكُم الله عن الذين لم يُقاتلُوكُم في الدينِ ولم
يُخرِجُوكُم من دياركُم أَن تبرُوهُم وتُقسِطُوا إليهِم إِن اللهَ يُحبُ المُقسطينَ)
[الممتحنة:8]. فالبر والقسط والتسامح مع الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم
من دياركم.
فالاختلاف ليس سبباً للشقاء والخلاف، بل يجب أن يكون سببا للتعارف
والتآلف، لذا قال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالُونَ
مُختلفينَ * إلاَ من رحِمَ ربُك ولذلك خلقهم) [هود: 118-119]. هذه حقيقة ربانية وهو
الاختلاف بين الشعوب والقبائل من أجل التعارف والتعاون والعمل المشترك، قال تعالى
(وجعلناكُم شُعُوباً وقبائلَ لتعارفُوا) [الحجرات:13]. يقول الإمام علي: (والنَاسُ
صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ).
عباد الله، الإسلام هو الذي أطلق الدعوة الأولى والصريحة لأتباع الديانات
الأخرى للتسامح والتحاور معهم: (قُل يا أَهلَ الكِتابِ تَعالوا إِلى كلِمةٍ سواءٍ
بيننا وبينكُم) [آل عمران:64]، ثم أوضح لأتباعه منهج التحاور والمجادلة: (ولا
تُجادِلُوا أهـلَ الكتابِ إلا بالتـي هي أحسنُ إلا الذين ظلمُوا منهُم وقُولُوا
آمنا بالذي أُنـزِل إلينا وأنزِل إليكُم وإلهُنا وإِلهُكُم واحِد ونحنُ له
مُسلِمُون) [العنكبوت:46].
ولتوضيح صور التسامح فأن الأديان السماوية جميعها من مشكاة واحدة،
قال تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة
مسلمة لك) [البقرة:128]، وعلى لسان إبراهيم ويعقوب: (يا بنيَ إن الله أصطفى لكم
الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [البقرة:132]، وجاء على لسان الحواريين(قالوا
آمنا وأشهد بأننا مسلمون) [المائدة:111]، وخاتم الأنبياء والمرسلين مع أمته يصفهم
المولى في تلك السلسلة المتصلة من إبراهيم: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه
والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله لا نفرق بين أحد من رسوله) [البقرة:285].
أيها الإخوة: سار أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كعادته في شوارع المدينة المنورة يتفقد أحوال الرعية، فرأى شيخاً طاعناً في السن
يتسول في الطريق، فسأل عن أمره، فأخبر أنه يهودي. فحزن الخليفة لما أصاب هذا الشيخ
الهرم مما اضطره إلى التسول، وأمر بأن يُخصص له من بيت مال المسلمين راتباً شهرياً
وعلاوة معيشية ليتيح له الحياة الكريمة، لم ينظر الفاروق إلى دينه ولا إلا معتقده
ولا إلى عرقه، ولكن نظر إليه نظرة الإنسان إلى أخيه الإنسان، فعمر هو صاحب المقولة
المشهور( لو أن بغلة عثرت بأرض العراق لخشيت الله أن يسألني عنها يوم القيامة)، عمر
ينصر المظلوم، ويقف مع الضعيف، ويدافع عن حقوق الإنسان، ويخشى تعثر البغلة حتى وإن
كانت في أقصى الأرض، فأين منظمات حقوق الإنسان لترى هذه السيرة العطرة؟!.
عباد الله، إننا اليوم في حاجة ماسة لإشاعة
ثقافة التسامح بين البشر، التسامح الديني بأن نحترم أديان الآخرين، وشعائرهم
الدينية، وممارساتهم الثقافية، فهذا عمر يطبق التسامح الديني بوضع الوثيقة العمرية
للنصارى في بيت المقدس قائلاً فيها: (أن لا تسكن مساكنهم ولا تهدم ولا ينقص من
أموالهم شيء ولا يكرهون على دينهم).
عباد الله، إن على قادة الرأي والعلماء والدعاة إشاعة ثقافة التسامح بين الناس، قولاً وعملاً، بالزيارات واللقاءات والحوارات، فهذا هو الأساس في استقرار الدول والمجتمعات.
0 تعليقات