خطبة الجمعة بجامع الخير بالبحرين، الشيخ صلاح الجودر
أما بعد: فإن الوصيةَ المبذولَةَ لي ولكم - عباد الله - هي تقوى الله
سبحانه التي أوصَى بها الأولينَ والآخرين، قال تعالى: )ولقد وصينا الذين أُوتُوا الكتابَ من قبلكم
وإياكم أن اتقوا الله) [النساء:131]،
وقال تعالى:
(لقد من اللهُ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) [آل عمران: 164]، فهو سبحانه الذي ألف
بين قلوبهم، وشرح صدورهم للإيمان، وجمعهم على الخير، وربطهم برباط التقوى، فأصبحوا
بنعمته إخواناً، فله الفضلُ والمنةُ.
أيها الإخوة المؤمنون، ليس بخافٍ على
أُولي النُّهى والألباب من أن شريعتنا الإسلامية الغراء غيرت بنور عدلِها ورحمتها
من الدنيا قاتِمَ معالمِها، فطمست جورها ومظالمها، وغرست في البرية رحماتها
ومكارمها، ومن ثم أبحرت بالإنسانية في حياة التعايش والتسامح والسلام الأجمل، والمستقبل
الآمن الأمثل، إلى أن رست في هذا الأوان في مرافئ الأمواج المُتلاطمة، ذات الفتن
المُدمرة والقاصِمة، فتنٌ احتدمت حتى جنحت عن المحجة البيضاء، وإن فئام من الناس
قد زعموا بذلك البناء والإصلاح، كلا ثم كلا، فقد أراقُوا الدماء، ونثروا الأشلاء، وهتكوا
الأعراض، ودمروا شاهق البناء، وشوهوا قيم الدين الحنيف، والأخلاق الحميدة.
عباد الله، وتلك الكوارثُ الأليمةُ
والأعمال الإرهابية الآثمة التي غرست خنجرها المسموم في خاصرة الأمة هي نتيجة
حتمية للذين اختزلوا حقائق الإسلام العظام من عدل وحكمة ورشاد، اختزلوها في أسماء
مُستعارة، ومُصطلحات مُحدثة غرارة، وألقابٍ وشِعارات وافِدةٍ ختارة، تمترست خلف
التطرف الفكري، والتشدد المذهبي، والشذوذ النفسي، وهو تنصل من الاعتدال والوسطية
التي يدعو لها الإسلام، واتخذُوهما وراءَهم ظهريًّا، فنجمَ عن ذلك إرهابُ المسلح وتطرف
العنيف، وتنطع في تلقي الحق، وحجرُه على فكرٍ واحدٍ ليس عنه محيد، وقد قالى تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
أيها الإخوة المؤمنون، إن أهل الإيمان
ليعجبون من هؤلاء وأشباههم من كل دعي مؤدلج في غياهب التأويل حيث يُحرفون كلام
الله عز وجل وفق نعرات طائفية مقيته، وأهواء حزبية مريضة، ومصالح ذات أجندة
وتبعية، فيعمدون إلى حمله على غير محمله، في جرأة على تفسير النصوص وفق مُراد أصحاب
الإرهاب الفكري في إباحة لترويع الآمنين، وهتك الحُرمات، وتدمير المُمتلكات،
وتخريب المُكتسبات، وعدم المُبالاة بإزهاق الأنفُس والأرواح، وسَفك الدماء وقتل
الأبرياء، قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93]، وجاء عن رسول الله
أيها الإخوة، وهؤلاء الشراذم الذين
انتحلوا الإصلاح فكذبوا، واستخفوا بعقول السذج فضلُّوا وأضلُّوا، يدَّعون أنهم
للدين الحنيف يخضعون ويفدون، ولحق أحكامِه يُؤدُّون، لا تزالُ أقوالُهم وأفعالهُم
تفضحُ مكنون ضمائِرهم، وتكشف مضمون سرائِرهم، لأنهم اتخذوا الدين الحنيف مطية وذريعةً
لأهوائهم الطامعة الشنيعة، (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
عباد الله، ولما للوحدة والتضامن
والاجتماع والإخاء من منزلة عظيمة، ولما للفرقة والخلاف والتنازع والشقاق من آفات
وأمراض كثيرة، فقد جاء ديننا الحنيف بالحث على التآلف والمودة، واجتماع الكلمة
ووحدة الصف، والتحذير من التنافر والفرقة والشقاق والتنازع، فكان من أهم ما جاء
به الإسلام بعد كلمة التوحيد توحيد الكلمة، لأن في ذلك سر بقاء أهل الإسلام،
وضمانة انتصارهم على أعدائهم، وصلاح أمورهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، جاء عن أبي
هريرة أن رسول الله
أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ لي
ولكم ولسائر المُسلمين، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً
كثيراً، أما بعد..
عباد الله، لقد شهدت البحرين في اليومين
الماضيين بدعوة من ملك البلاد حفظه الله ورعاه وفضيلة الإمام الأكبر إمام الأزهر
الشريف مؤتمراً إسلامياً للحوار، تحت شعار (أمة واحدة، مصير مشترك) وقد شارك
بالمؤتمر أكثر من 400 شخصية علمية من مراجع دينية وعلماء ومفكرين وخطباء من جميع
دول العالم لتدارس أوضاع المسلمين، ومن أهداف المؤتمر تعزيز أواصر الأخوة، وتوطيد
العلاقات الإنسانية، وتوحيد الرؤى لمواجهة التحديات التي تواجهها الأمة الإسلامية.
ومن أبرز توصيات المؤتمر: الدعوة إلى
تعزيز التعاون بين المرجعيات الدينية والعلمية والإعلامية لمواجهة ثقافة الكراهية،
وإلى ضرورة تجريم الإساءة واللعن من جميع الأطراف، ومراجعة التراث الفكري والثقافي
في جميع مدارس المسلمين لتجاوز الأخطاء الاجتهادية.
وإنه يجب على المسلمين توحيد
الجهود لدعم القضايا الإسلامية الكبرى، وفي مقدمتها القضية
الفلسطينية، ومقاومة الاحتلال، إضافة إلى مواجهة الفقر والتطرف.
كما دعا البيان الختامي إلى إذابة
الخلافات الثانوية تحت مظلة "الأخوة الإسلامية"، مشدداً على ضرورة
مشاركة المؤسسات العلمية الإسلامية الكبرى في إنجاز مشروع علمي شامل يُحصي قضايا
الاتفاق بين المسلمين في العقيدة والشريعة والقيم، حتى يمكن تعزيز التفاهم
والتقارب بينهم.
ولفت المؤتمر إلى أهمية الوحدة
الإسلامية وجعلها نهجًا مؤسسيًا يبدأ من مناهج التعليم، ويمتد إلى خطب المساجد
والإعلام.
عباد الله، البحرين بقيادة ملك البلاد
حفظه الله تسير وفق نصوص القرآن والسنة المطهرة، فجاء المؤتمر للتأكيد على سواسية
الخلق عن اللهن فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن
ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير) [الحجرات:
13]، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ
مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام: 159]، فإياكم - عباد الله - أن تكونوا من الذين
فرقوا دينهم وكانواً شيعاً، فقد جاء عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله:
(من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله
وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تخفروا الله في ذمته) [البخاري].
وقال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ
بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام:
153].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واحفظوا ألسنتكم، (وأصلحوا
ذات بينكم وأطيعوا ٱلله ورسوله إن كنتم مؤمنين) [الأنفال: 1].
0 تعليقات