في علم السياسة صناعة العدو ثم التخلص منه
الدولة العباسية التي قامت على يد أبي مسلم الخرساني سرعان ما تخلصت منه بعد أن أدى الدور المطلوب منه، وقتله وهو في أحضانها وبين حراسها وأمام أعينها، وقد اختلفت الروايات في عملية تصفيته وقتله، طعنًا برمح، أو ضربة بسيف، أو تمزيقًا بالسكاكين ثم الرمي من أعلى الشرفة أمام أتباعه وأنصاره، فأبو مسلم عبدالرحمن بن مسلم الخرساني، الفارسي المولد والمنشأ (718-754 ميلادية) هو القائد العسكري الفارسي بالدولة العباسية، واليد اليمنى لها، فقد استطاع من تأسيس قوة عسكرية، وهو ما يعرف هذه الأيام بالمليشيا أو الحزب أو الفيلق لضرب الدولة الأموية لإسقاطها، وقد تحقق له ذلك في عهد أبي العباس السفاح، ولكن مع قدوم أبي جعفر المنصور إلى الحكم، استدعاه لإنهاء قصته وطموحه وتطلعه، فكانت نهاية قصة أبي مسلم الخرساني في قصر المنصور بالعام 137 هجرية.
هذه القصة من كتب التاريخ والسير التي شبهت أبا مسلم الخرساني بالحجاج بن يوسف الثقفي في سفك الدماء، واليوم نرى تلك الصورة في المليشيات والأحزاب والفيالق المتكاثرة بالمنطقة العربية، حيث تفتعل تلك المليشيات المسلحة الأزمات لإضعاف الدولة، والتي في الغالب يتم تصنيعهم وفق أيدولوجيات محددة للقيام بمهمات عنفية بالوكالة، ثم يتم تصفية قادتها بعد احتراق أوراقهم، وانتهاء أدوارهم، والغريب أنه بعد تصفيتهم يتم تنظيم مسيرة عزاء حاشدة لإظهاره بالبطل والشهيد الذي قدم لها الخدمات الجليلة، وكما يقول المثل المصري: (يقتل القتيل ويمشي في جنازته)!! لذا جاء التساؤل: هل يتم تصنيع العدو ثم التخلص منه؟ بمعنى هل يتم تأسيس تنظيم أو حزب أو مليشيا أو فيلق كعدو، ويتم تزويده بالأسلحة والأموال من أجل افتعال الصدام ثم التخلص منه بدماء باردة؟
وبعد رحلة طويلة من البحث وقفنا على كتاب (صنع العدو) للباحث والأكاديمي الفرنسي بمعهد العلوم السياسية (بيار كونسيا) الذي استهل الكتاب بقوله: إن (الحرب قبل كل شيء ترخيص ممنوح شرعيًا لقتل أناس لا نعرفهم، وأحيانًا نعرفهم كما في الحروب الأهلية، لكنهم يتحولون فجأةً إلى طرائد يجب تعقبها والقضاء عليها)، واختتم بمقولة الفيلسوف الألماني ـفريدريش نيتشه (1844-1900): (إن من يحيا على محاربة عدوه، من مصلحته أن يدعه يعيش)، وهذه المقولة هي إجابة لمن يسأل هل يمكن صناعة العدو، وتركه يعيش ويكبر ويتمدد، والجواب نعم إذا كانت هناك مصلحة أكبر، أن (تدع عدوك يعيش) مقولة تسير وفق القاعدة الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة).
فصناعة العدو أصبحت حلاً للكثير من الدول التي تعاني حروبًا وانقسامات داخلية، لذا تسعى لصناعة عدو بمقاس معين لاعتبارات كثيرة ومنها، المحافظة على الهوية، إشغال الرأي العام من أجل توحيده، والاستنفار الدائم للقوات المسلحة وغيرها، وليس أسهل من صناعة حزب أو مليشيا أو تنظيم أو فيلق بمقاس العدو سواءً من أجل إعمال التخريب في دول الجوار كما هو حاصل في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فقد تم تصنيع الكثير من المليشيات من أجل العبث بأمن تلك الدول، وحال ما يتم الانتهاء من أدوارهم يتم تصفيتهم والتخلص من قادتها وفق مساومات سياسية.
وكما يتم تصنيع العدو فإنه يتم تفكيكه، وذلك باتباع أساليب أخرى غير تلك التي كانت سببًا للتصنيع، فيتم تغير صيغة الخطاب السياسي، والتحول من الصدام إلى السلم، ومن الثورية إلى التهدئة والمهادنة، ومن الحرب إلى السلام والتطبيع، ثم يتم عقد الصفقات السرية للتخلص من تلك المليشيات وكأن شيئًا لم يكن كما هو الحال مع تنظيم الدولة (داعش).
المؤسف أن (العدو) الذي تم تصنيعه يقوم بأكثر مما هو مطلوب منه، فيتم إشعال الحروب مع أنه لا يعلم متى نهايتها، ولا حجم الخسائر التي سيتكبّدها، مهمته فقط الإشعال، والنتائج لا تعنيه بشيء!!
صحيفة الأيام البحرينية
العدد 12906 الخميس 8 أغسطس 2024
0 تعليقات