الكاتب صلاح الجودر
العالم اليوم يموج بالأحداث الجسام التي يعجز العقل عن تفسيرها!، فيشهد حالة من التوتر والصدام بين الدول الكبرى التي كنا نأمل منها العقل والحكمة بما شاهدته من آثار مدمرة بالحرب العالمية الأولى والثانية، وتلك الحالة التي تستعرضها القنوات الفضائية كل يوم مغلفة بأعمال العنف والقتل والتدمير والتهجير، كما هو حاصل اليوم بين روسيا وأوكرانيا، وإسرائيل وإيران وأذرعها بالمنطقة العربية، فإن المسئولية الإنسانية تستدعي نشر ثقافة التعايش السلمي بين البشر، والتسامح الديني، والسلام البشري، وهي مسئولية الفعاليات المجتمعية في جميع القطاعات.
فالتعايش السلمي يعود إلى فعل تعايش، يتعايش، فهو متعايش، وتعايش الناس أن عاشوا في ألفة ومودة ومحبة، وخلاصتها أن الجميع يتعايش رغم اختلافاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية أو الثقافية أو غيرها، فالتعايش السلمي تحتاجه الشعوب المتنوعة والمختلفة لتعزيز أمنها واستقرارها، فإذا كان المجتمع من طيف ديني أو سياسي واحد فلا حاجة للحديث عن التعايش، لأن الأصل فيهم أنهم متفقون في أبرز المحركات الحياتية، ولكن يبقى التعايش مطلب الشعوب المختلفة في تلك المحركات لتعزيز الأمن والاستقرار لديها.
ومصطلح التعايش السلمي يعني أن المجتمع في حاجة إلى تعزيز العلاقة بين أفراد المجتمع، وخلق جو من الألفة والتفاهم مع الناس، بعيداً عن التحريض والصراع والصدام، فالتعايش يعني احترام الآخر، واحترام حريته وممارساته الدينية، وتكون ثمرة التعايش السلمي بالمجتمع ثقافة التسامح، فلا يمكن أن يكون المجتمع متسامحاً إذا رفض التعايش فيما بينه، بمعنى أن ثقافة التعايش هي الأرضية التي يعيش عليها الناس، ومن ثم تأتي القيم الإنسانية الأخرى مثل العفو والصفح والغفران وتجاوز الزلات حتى بلوغ أعلى الدرجات الأخلاقية، وهو التسامح، والتعايش له آثار كبيرة بالمجتمع ومنها التعاون والعمل المشترك، وقبول الآخر بما فيه من اختلاف، وبناء الحضارة الإنسانية.
ويمكن معرفة وجود التعايش بالمجتمع، أو معرفة مستوى التعايش من خلال ملامح التعايش التي ترى في مفاصل المجتمع، ومنها: الاعتقاد بحرية الدين للآخرين (لكم دينكم ولي دين)، فالتعايش يفرض الاعتراف بالأديان والشرائع الدينية السماوية دون ازدراء، فيحترم الأنبياء والملائكة والكتب والرسل، واحترام الثقافات الإنسانية الأخرى ومعتقداتها، فيفسح لأتباع الأديان الأخرى المجال لممارسة عباداتهم وفق القانون وتحت مظلة الدولة، بالمقابل رفض الاعتداء على الآخر في معتقده وضرورياته الخمس بدعوى التكفير والإرهاب، ورفض الكراهية وأخواتها من سب وطعن ولعن، فتلك تنافي التمسك بالأخوة الإنسانية حتى لو رفعت شعارات المساواة والكرامة.
لذا يثار تساؤل كبير عن أهمية الدعوة للتعايش، ولماذا الآن تحديداً؟، في السابق كانت المجتمعات البشرية منفصلة عن بعضها البعض حتى وإن كانت في منطقة واحدة، أما اليوم فالعالم بعد الثورة المعلوماتية قد أصبح منفتحاً حتى أصبح العالم بأسره قرية صغيرة، لذا تحتاج تلك المجتمعات للعمل والتعاون، والاستفادة من الخبرات الدولية رغم اختلافاتها، والأمر الآخر أن هناك موجة من التطرف العنيف تجتاح العالم والتي تنذر بحرب عالمية جديدة، وترى بشاعة آثارها، ويجب التصدي لها، لذا تبرز أهمية الدعوة للتعايش السلمي.
والبحرين استطاعت في الأعوام الماضية من تعزيز هذا الجانب الإنساني، فقد حققت الكثير في جانب التعايش السلمي منذ العام 2017 حين تم تدشين إعلان مملكة البحرين في التعايش والتسامح، وما رافقها من تدشين مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي والمبادرات والبرامج التي هيئة الأرضية لمعرفة فكر وفلسفة جلالة الملك المعظم حمد بن عيسى آل خليفة.
واليوم تم تدشين جائزة الملك حمد للتعايش السلمي، وهي جائزة دولية للأفراد والمؤسسات التي قدمت المبادرات الإنساني في جانب التعايش والسلام والتسامح، وهذه الصورة من التعايش تعتبر حقيقية لما يشهده المجتمع البحريني من تنوع وتعددية دينية وثقافية، لذا نستحضر دائماً كلمة جلالة الملك المعظم في هذا الجانب (إن جوهر التعايش في مملكة البحرين هو احتفاظ كل منا بدينه وهويته وخصوصياته كاملاً من غير نقصان، على أساس من الثقة والاحترام المتبادل بين الجميع، ومنبثقاً من رغبة أهالي البحرين في التعاون لخير الإنسانية، وتعميق التفاهم بين أهلا الأديان والمذاهب، وإشاعة القيم الإنسانية، وإقامة جسور التقارب الإنساني والحضاري والثقافي، كما نص على ذلك الميثاق الوطني والدستور بعد توافق وطني مرت عليه عقود من الزمان)، فعلى أرضية هذه الكلمات السامية تبنى المجتمعات بأسس من الاحترام والتقدير.
صحيفة الأيام البحرينية
العدد 12923 الأحد 25 أغسطس 2024
0 تعليقات