أما بعد: فيا أيها المسلمون، قال تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) [البقرة: 197].
عباد
الله، تأملوا معي ونحن في العشـر من ذي الحجة إلى حجاج بيت الله الحرام، وهم
يطوفون بالبيت العتيق، ويسعون بين الصفا والمروة، ويغتسلون بماء زمزم، ويلبسون
ثياب الإحرام، ويتوجهون إلى منى، ويقفون اليوم بعرفات، في صورة تراحمية فيما
بينهم، لا رفث، ولا فسوق ولا جدال، من الذي هداهم لهذا السلوك القويم، من الذي
أرشدهم إلى هذا الخلق الكريم، لو اجتمع الأنس والجن على أن يقوموا بمثل هذا ما
استطاعوا،
تأملوا
فيهم - عباد الله - وهم يسعون في المشاعر المقدسة، والأرض المباركة، التي سار
عليها جميع الأنبياء من أبيهم إبراهيم إلى خاتم المرسلين، محمد رسول الله، أشرف
الخلق والمرسلين، وصحابته وآل بيته، تاريخ مجيد تزدحم به طرقات مكة ومنى وعرفات
ومزدلفة، تاريخ ينبض بالحياة كل عام حينما يبدأ الحجاج بوضع أقدامهم على تلك الأرض
المباركة، ودعوات الحجاج من مكة تنطلق تسأل المولى الرحمة والمغفرة والرضوان، دعوات
ليس للمسلمين فقط، بل للخلائق أجمعين، نداءات الرحمة للبشـرية جمعاء تنطلق من مكة
كل عام، في منظر مهيب يقف العالم معه أجلالا وإكبارا، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا
شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، لا شريك لك.
عباد
الله، والأمة هذه الأيام وهي تجدد العهد مع الله تعالى، فإنها تقتبس من وصايا وخطب
رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من العبر والدروس، لتعيد لنفسها العزة والكرامة
والنصـر، لقد وقف نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة يوم عرفة، ثم يوم
النحر وأيام التشـريق ليخطب في الناس، وصايا جامعة، وإرشادات مانعة، بعد أن كمل الدين،
وأرسيت قواعد الإسلام، واستقرت الشـريعة، وتمت النعمة، قال تعالى: (ٱليومَ أكملتُ
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) [المائدة: 3].
أيها
الإخوة المؤمنون: وقف نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم يوم النحر، وهو يوم عيد الأضحى،
ليلقي خطبته العصماء، فعن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الزمان قد
استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض: السنة اثنا عشـر شهرًا، منها أربعة حرم:
ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضـر الذي بين جمادى وشعبان. أي
شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس
ذو الحجة؟، قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟، قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا
أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس البلد الحرام. قلنا: بلى. قال: فأي يوم هذا؟،
قلنا الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس يوم النحر؟،
قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في
بلدكم هذا، في شهركم هذا. ثم قال: ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع،
ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وكان
مستوضعًا في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا
عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان
الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه،
فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت
فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم
قائلون؟! قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى
السماء وينكتها إلى الناس: (اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم أشهد) ثلاث مرات. وفي
رواية البخاري بلفظ: (فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض).
عباد
الله، لقد حوت هذه الخطبة على الأسس والمبادئ والقيم الإنسانية الراقية، حوت على
العدالة والأنصاف والمساواة وحقوق الإنسان، وفق الشريعة الإسلامية السمحة، فقد أبتدئها
النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الزمان قد استدار) وذلك ليؤكد على أن الأيام
والسنين كلها تمضـي وتسير وفق ما أراد لها خالقها ومصـرفها، ثم أكد على حقائق
معروفة عند العرب، فقال: (أتدرون أي شهر هذا؟! أتدرون أي بلد هذا؟؟) فلما أقروا
بحرمة الشهر والمكان قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، في توجيه
نبوي شريف لحقن دماء الناس أجمعين، وحفظ أموالهم وأرواحهم، وأن الدين الإسلامي
الصحيح يرفض العنف، ويرفض التخريب، ويرفض التدمير، ويرفض التعدي على أملاك الغير.
عباد
الله، لقد تدرج النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته من العموم إلى الخصوص، ومن
النظري إلى التطبيقي، فقال:(ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع) الربا. ثم
أنتقل إلى حقوق المرأة، بقوله:(فاتقوا الله في النساء) وذلك اقتداء بقوله تعالى:(وعاشروهن
بالمعروف)[النساء: 19]، وقوله: (ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)[البقرة:
228].
عباد
الله، ومن أعظم الوصايا التي يجب أن يتمسك بها المسلم، هي كتاب الله، فقال صلى
الله عليه وسلم: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله).
عباد
الله، وفي هذا اليوم الأغر، يوم الجمعة ويوم عرفة نذكر بأن ما أصاب الأمة من وهن
أو ضعف إلا بسبب بعدها عن كتاب الله، وهو تنبيه نبوي للأمة إلى التمسك بكتاب ربها.
وفي
الأخير أشهدهم صلى الله عليه وسلم على تبليغ دين الله فقال: (اللهم اشهد، اللهم
اشهد، اللهم اشهد).
أقول
قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور
الرحيم.
الحمد
لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام
على أشرف الخلق والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أما
بعد: عباد الله، للعشـر من ذي الحجة وعيد الأضحى سنن وأحكام، منها، أولاً: صيام
يوم عرفة، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صيام يوم عرفة، أحتسب
على الله تعالى أن يكفر ذنوب سنتين). ثانياً: الدعاء يوم عرفة، فعنه قال: (خير
الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبِيون من قبلي: (لا إله إلا الله وحده
لا شريكَ له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير). ثالثاً: التكبير من فجر
يوم عرفة إلى عصـر آخر أيام التشريق. رابعاً: ذبح الأضحية: ويكون ذلك بعد صلاة
العيد لقول رسول الله: (من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى، ومن
لم يذبح فليذبح) [البخاري ومسلم]، ووقت الذبح أربعة أيام العيد. خامساً: ليوم
العيد الاغتسال والتطيب للرجال ولبس أحسن الثياب. سادساً: الصلاة مع المسلمين
وحضور صلاة وخطبة العيد. سابعاً: التهنئة بالعيد: مثل قول: تقبل الله منا ومنكم.
عباد
الله، نذكركم بأن صلاة العيد ستكون الساعة 5.11 دقيقة صباحاً وستكون في المصليات،
وبعض الجوامع التي أعلنت عنها إدارة الأوقاف السنية.
فاعرفوا
لهذه الأيام قدرها، ولهذه المناسبات منزلتها، وتمسكوا بالنورين، الكتاب والسنة،
تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
الشيخ صلاح الجودر
خطبة الجمعة 9 ذي الحجة 1443
جامع الخير - مملكة البحرين
8 يوليو 2022
0 تعليقات