خطبة التسامح والوئام والوحدة
الشيخ صلاح الجودر
أما بعد: فأوصيكم -
عباد الله- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن التقوى هي الحبلُ
الأقوى للفوزِ بجنة المأوى، تربِط على القلوب ساعة الفتن، وتُنير الدروب أوقاتَ
الأزمات والمحن، من غمرت التقوى
قلبه سلمت طويته من الضغن، وهدي إلى خيرِ سبيلٍ وأقوم سَنَن.
أيها الإخوة المؤمنون، إن الناظر في
تاريخ أمة الإسلام لا يجد عناءً في إدراك تمييزها وتفوقها وسيادتها وقيادتها
للعالم بأسره حين من الدهر وفترات من التاريخ، وما ذلك إلا بسبب تمسكها بالكتاب
والسنة، والسير على هدي سلف الأمة، ولزوم التمسك بالكتاب والسنة والجماعة، ونبذ
الخلاف والشقاق والفرقة، امتثلاً لقوله تعالى: (إِنَّ
هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92].
والمتأمل - عباد الله - في واقع الأمة
اليوم لا يجد كثير عناء في معرفة واقعها المؤلم الموحش، ترمقها عيون الخونة
والمتآمرين، وتتناوشها سهام الأعداء ورماح الحاقدين، مع ما تعانيه من انقسامات
داخلية، وصراعات حزبية، وظهور الأفكار المنحرفة والمناهج السقيمة، مع تكاثر فئام
من المارقين عن الملة والجماعة، مما جعل الأمة اليوم في كثير من مواقعها كالقصعة
التي تداعى عليها الأمم، كما صح عن رسول الله
أيها الإخوة، إن المحن والأزمات هي التي
تصقل الأمم والمجتمعات، ولله في ذلك الحكمة البالغة، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35]، وشريعتنا الغراء نأت عن مسالك
الشقاق والخلاف، وقصدت مدارج الألفة والمحبة والاجتماع، فدعت إلى تعزيز صور
التسامح والتراحم والوحدة والتلاحم، ولا سيما بين أهل الحق والإيمان والهدى، قال
تعالى: (وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ
جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَانًا) [آل عمران: 103]، وجاء عن رسول
الله
عباد الله، إن من أبشع الأدواء التي
أصيبت بها الأمة هو داء التنافر والوحشة والحقد والكراهية والتدابر حتى بلغ حد
التلاسن والتلاعن والتسفيه، فتم التطاول على الصحابة وآل البيت والتابعين لهم
بإحسان من العلماء وأهل الرأي، ولم يسلم ولاة الأمر من ذلك المسلك المنحرف والمنهج
الضال، فأصبح ذلك مسلكاً ومنهجاً لشباب الأمة وناشئتها عبر وسائل التواصل
الاجتماعي، فتلقفتهم مراكز التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية وهيئات حقوق
الإنسان، وقد حذر رسول الله
أيها الإخوة، ما بالنا مع أقوام من
الناس غايتهم النيل من الآخرين، فيتتبعون العثرات، ويتصيدون الزلات، وينفخون في
الهنات، همزاً ولمزاً وغمزاً، وتشهيراً وتسفيهاً، ديدنهم التهويش والتشويش
والتحريش، يكثرون اللوم والوقيعة والعتاب، ويبادرون بالاتهام وسوء الظن والوشايات،
يطعنون في الخواصر ومن تحت الحزام، فيا سبحان ربي العظيم، ألا يخافون الله ربَّ
العالمين؟!.
عباد الله، ومن قصص السلف ما جاء عن
القاضي إياس بنِ معاوية، فقد أورد الحافظ ابن كثير عن سفيان بن حسين قال: ذكرتُ
رجلاً بسوءٍ عند القاضي إياس بن معاوية، فنظر في وجهي وقال: أغزوت الروم؟! قلت:
لا، قال: السند والهند والترك؟! قلتُ: لا، قال: أفسلِم منك الرومُ والسند والهندُ
والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم؟!، قال: فلم أعُد بعدَها أبدًا. وقال ابن
المبارك: (المؤمن يلتمس المعاذير، والمنافق يتتبع الزلات)، وقال آخر: (المسلم
يستُر وينصَح، والمنافِق يهتِك ويفضَح)، أورد الذهبي عن الحافظِ أبي موسى الصّدفي
أنه قال: ما رأيتُ أعقلَ من الشافعيّ، ناظرتُه يومًا في مسألةٍ ثمّ افترقنا،
ولقيني فأخذ بيدي. ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيمُ أن نكون إخوانا وإن لم نتفق
في مسألة؟!، إذا كان هذا في حق آحاد الناس، فكيف إذا كان من ولاة الأمر والعلماء
وأهل الفضل والخير؟!، فإن إمساك اللسان عنهم آكدُ وأوجب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ لي
ولكم ولجميعِ المسلمين، فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة
للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء
والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فيا أيها الناس،
اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، في ظل ما تواجهه أمتنا من
تدخل سافر في شئونها فإن من الواجب على العلماء والدعاة والمثقفين إلى الشعور بروح
الجسد الواحد حماية للمجتمع من الوقوع في أيدي أقوام سفهاء مارقين باعوا دينهم
ووطنهم لمخططات ومشاريع تدميرية، بل تعدى الأمر إلى تبنيهم مناهج الإرهاب والعنف
بحمل السلاح والتفجير والتدمير.
هذا والله نسأل أن يديم علينا نعمةَ
الأمن والإيمانِ، والسلامة والإسلام، وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل شر
ومكروه، إنه سميع الدعاء.
إلا فأتقوا الله عباد الله وكونوا من
المحسنين.
جامع الخير - البحرين
2-2-2024
0 تعليقات