خطبة وداع عام، واستقبال آخر

 

جامع حالة النعيم

خطبة الجمعة بجامع الخير قلالي

29 يولية 2022

الشيخ صلاح الجودر

الحمدُ لله، تفرَّد بالعزِّ والقَهر والكِبرياء، واستأثَرَ بالمُلك والتدبير والبقاء، قهرَ الخلقَ بما كتبَ عليهم من الفناء، أحمدُه سبحانه والَى بالإنعام النِّعمَ المُتكاثِرة، وحذَّر بالانتِقام بالنِّقَم القاهِرَة، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، له الحمدُ في الأولى والآخرة. 

وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، أيَّدَه بالحُجَج الظاهِرة، والبراهِين الباهِرة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلهِ وأصحابِه النُّجُوم الزاهِرة، والكواكِب السَّائِرة، والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فأُوصِيكم - أيها الناس - ونفسِي بتقوَى الله، فاتَّقُوا اللهَ رحِمَكم الله، وحاسِبُوا أنفُسَكم، فمَن حاسَبَ نفسَه عُرِف بلَيلِه والناسُ نائِمُون، وبنهارِه والناسُ مُفطِرٌون، وبورعِه والناسُ يخلِطُون، وبصَمتِه والناسُ يخُوضُون، وبخَوفِه إذا الناسُ غافِلُون، يحفَظُ لِسانَه، ويبكِي على خطيئتِه، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].

عباد الله: في توديعِ عامٍ واستِقبال آخر، يجدُرُ بالنَّفسِ أن تقِفَ وقفةَ مُحاسبة، وقفةَ صِدقٍ وتفكُّرٍ، واعتِبارٍ ومُساءَلة، فمَن حاسَبَ نفسَه في دُنياه خفَّ عليه حِسابُه في أُخراه، ومَن أهملَ المُحاسَبَة دامَت عليه الحَسرة، وساءه المُنقلَبُ والمصيرُ.

أيها الإخوة المؤمنون: وخيرُ مُذكِّرٍ، وأعظمُ واعِظٍ، ذِكرُ هادِم اللذَّات، ومُفرِّق الأحِبَّة والجماعات، جديرٌ بمَن الموتُ مصرَعُه، والقبرُ مضجَعُه، والقِيامةُ موعِدُه، والجنةُ أو النارُ مورِدُه، جديرٌ به ألا يكون له تفكيرٌ إلا في المصير، والنظرِ إلا في العاقِبة، فإن كلَّ ما هو آتٍ قريب، وأما ما ليس بآتٍ فهو البعيد، يقول الإمامُ القُرطبيُّ: النُّفوسُ الرَّاكِدة، والقُلوبُ الغافِلَة تحتاجُ إلى تطوِيلِ الوُعَّاظ، وتزويقِ الألفاظ، وإلا فإن في قَولِه تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران: 185] ما يكفِي السَّامِع، ويشغَلُ النَّاظِر، ذِكرُ الموتِ يُورِثُ الحذَرَ مِن الدنيا الفانِية، والاشتِغال بالدارِ الباقِية، ذِكرُ الموتِ يُخفِّفُ عن أهلِ الضِّيقِ ضِيقَهم، ويُسهِّلُ عليهم مُعاناتهم، يقولُ كعبٌ - رحمه الله -: (مَن عرفَ الموتَ هانَت عليه مصائِبُ الدُّنيا وهُمومُها),

عباد الله، ذِكرُ الموتِ يُورِثُ تعجِيلَ التوبة، وقناعةَ القلبِ، ونشاطَ العِبادة، إما نِسيانُ الموتِ فيُورِثُ تسويفَ التوبة، وعدمَ الرِّضا بالكَفافِ، والكسلَ في العِبادة، فتفكَّرُوا رحمكم الله، تفكَّرُوا في الموتِ وسكَرَاته، والكأسِ ومرارَتِه. يقولُ السُّدِّيُّ في قولِه تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2]، قال: (أكثرُ للموتِ ذِكرًا، وله أحسنُ استِعدادًا، ومِنه أشدُّ خوفًا وحذَرًا). وأنجَعُ طريقٍ لذِكرِ الموتِ، التذكُّر المُفيد والمُرقِّق للقُلُوب، فيذكُرَ المرءُ أقرانَه الذين مضَوا، ويتذكَّرُ مناصِبَهم وأحوالَهم وأعمالَهم، كيف محَا التُّرابُ صُورَهم، وبدَّد أحلامهم.

أيها المُسلمون: وللمَوتِ سكَرَاتٌ وكُرُباتٌ وغَمَراتٌ، وقد قال نبيُّنا مُحمدٌ صلى الله عليه وسلم وهو في حالِ الاحتِضار: (لا إله إلا الله، إن للموتِ لسَكَرَات!)، قال تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 19]، وأعلموا أن الإيمانُ لا يُقبَلُ إذا حضَرَ الموت، والتوبةُ لا تنفَعُ إذا غرَغرَ العبدُ، وإذا نزلَ الموتُ تمنَّى المرءُ العودةَ إلى الدُّنيا، قال تعالى في وصف حالهم: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) [المؤمنون: 99-100].

وقد وصف النبي حال المتوفي (المُؤمنُ إذا حضَرَه الموت بُشِّر برِضوانِ الله وكرامتِه، فليس شيءٌ أحَبَّ إليه مما أمامَه، فأحبَّ لِقاءَ الله، وأحبَّ الله لِقاءَه، وإن الكافِرَ إذا حُضِرَ بُشِّر بعذابِ الله وعُقُوبتِه، فليس شيءٌ أكرَهَ إليه مما أمامَه، فكَرِهَ لِقاءَ الله، وكرِهَ الله لِقاءَه) [البخاري]، والجنازةُ الصَّالِحة تقولُ: (قدِّمُونِي، قدِّمُونِي)، وغيرُ الصَّالِحة تقولُ: (يا وَيلَها! أين تذهَبُون بها؟!، يسمَعُ صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمِعَها الإنسانُ لصَعِق) [البخاري].

عباد الله: أهلُ الإيمان حالَ الاحتِضار تتنزَّلُ عليهم الملائِكةُ - كما قال أهل التفسير -، (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [فصلت: 30-31]، فالموتُ حَتمٌ، و(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26-27].

أقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله العظيم لي ولكم ولسائرِ المسلمين، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيم.


الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا،،

عباد الله، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].

أيها الأخوة المؤمنون، ونحن نودع عاماً هجرياً ونستقبل آخر عليكم بالمراجعة والمحاسبة، وإياكم والفتن التي ترونها هذه الأيام، اجتهدوا في تحصينِ أنفُسِكم وأهلِيكُم مِن تلك الفتَن بلُزُوم فَهم السلَف الصَّالِح، ومسلَك أهل السنَّة والجماعة في لُزُوم السَّمع والطاعة، والدُّعاء بالثَّباتِ والصَّلاحِ والإصلاحِ، والتواصِي بالحقِّ، والتواصِي بالصبر، والتناصُح المُخلِص.

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

إلا فاتقوا الله - رحمكم الله - وراقبوا ربكم، واحذروا مثيري الفتن بين الناس ليس له إلا النارَ يوم القيامة، واحذروا من فتن العصر التي يروج لها دعاة المثلية والشذوذ الجنسي.

 


إرسال تعليق

0 تعليقات