المجاهد عبدالوهاب الزياني
يا
ليت الذين يكتبون لنا تاريخ الأمة حين يكتبونه يكونون منصفين نوعاً ما، وليتهم حين
يسطرون تاريخ الأجداد يجردون أقلامهم من العواطف والأحساس، وليتهم لا يغمضوا
أعينهم عن ذلك التاريخ العظيم، تاريخ الأمة والأجيال، فصاحب القلم الحر أمامه
أمانة كبيرة في نقل تاريخ وحوادث تلك الفترة المهمة، أمانة مع نفسه قبل أمانته
أمام التاريخ والناس، ويحز في نفسي كما في نفوس الكثيرين حينما نجد من يقول أن أول
حركة "وطنية" في البحرين كانت سنة 1953م وأن زعيمها عبدالرحمن الباكر ثم
يتكلم عن منجزاتها ورجالها، وكأنه ليس هناك تاريخ قبل تلك الفترة، وكأنه ليس هناك
حركة "وطنية" قبل ذلك الزمان، أعتقد أن الذي يقول أن حركة الباكر هي أول
حركة "وطنية" قد جانب الصواب وأخطأ النجعة، ونسب الأمر لغير أهله،
فللأمانة التاريخية التي بين أيدينا والتي لا يساورها أدنا شك، ومن خلال الكتب
والوثائق البريطانية والمرويات المتصلة من الرجال الثقاة حول أول حركة
"وطنية" في البحرين وعن رجالها وأهدافها ومنجزاتها، وحتى لا تختلط
الأوراق حول الحركات "الوطنية" في البحرين، خاصة بعد أن طال عليها الأمد
ومضت السنون وذهب من كان شاهداً على تلك الحقبة المهمة من تاريخ البحرين، فإن كان
ولابد من سرد التاريخ واستجلاب الأدلة ووضع البراهين والكشف عن الأحداث، ثم البحث
في تاريخ البحرين والغوص في أغواره، فلنبدأ من البداية.
تعتبر
الحركة "الوطنية" التي قامت سنة 1923م هي أولى الحركات
"الوطنية" في البحرين، وفارس تلك الحقبة وبطلها الحركة
"الوطنية" الأولى في البحرين الشيخ عبدالوهاب بن حجي الزياني المجاهد
الكبير، وأحد مؤسسي التعليم في البحرين سنة 1919م، والذي أمضى حياته من أجل
البحرين، ثم أمضى البقية الباقية من حياته في المنفى حتى مماته وذلك لتمسكه بقضيته
الأولى "البحرين".
وإن كان الشيخ الزياني لم يدون لنا تاريخه وتاريخ الحركة
"الوطنية" بخط يده بسبب انشغاله لإثبات براءته في محاكم بومبي (مومبي)
إلا أن نضاله من أجل البحرين كان شغله الشاغل حتى وهو في المنفى، وهذا ما تثبته
لنا الرسائل المتبادلة بينه وبين الشيخ عيسـى بن علي آل خليفة حاكم البحرين، لقد
كان الشيخ الزياني شعلة (سفّرت) سماء البحرين والخليج بعطائها المتدفق وتضحياتها
الجسيمة، والوثائق البريطانية وإن كانت قد كتبت بأيدي حكومة صاحب الجلالة إلا أنها
أكبر دليل على نضال هذه الشخصية البارزة التي ضحت من أجل البحرين وأهلها.
مسجد عبدالوهاب الزياني بسوق المحرق 1970
لقد كان الشيخ الزياني نموذجاً رائعاً للمناضل الذي عاش من أجل وطنه
وقضيته، لقد وقف الشيخ الزياني في وجه الاستعمار البريطاني بكل قوته هو وأعضاء
حركته، فإن كان الحديث عن تلك الفترة يصيبنا بالأسى واللوعة إلا أن استرجاعها ينير
لنا الطريق الذي أضاعه الكثير من الناس، وجهله الأبناء وأغفلته بعض الأقلام، إن حادثة واحدة من تلك الحركة كافية للم الخيوط
وكشف الغبش عن الفترة العصيبة التي مرة بالبحرين وأهلها، وأعتقد أن هذه الحادثة
كافية لوضع النقاط على أول حركة وطنية.
بعد عزل الشيخ عيسـى بن علي آل خليفة بخمسة أشهر، وفي ليلة
الأحد 26-10-1923م انعقد أول مجلس ضم كافة
القطاعات الرافض للإصلاحات البريطانية (كما جاء في السجلات البريطانية) أو التدخل
المباشر من تلك القوات في شئون البحرين الداخلية، وتم خلال الاجتماع اختيار
المجموعة التي تمثلهم وتدافع عن حقوقهم، وأطلق عليها المجلس التشـريعي، أو المؤتمر
الوطني، أو الحركة الوطنية، أو الجهاد، أو الثورة كما يحلو للبعض تسميتها، أو
البرلمان كما ترد في السجلات البريطانية.
ولقد ارتفع صوت الحركة في الخطاب السياسي شيئاً فشيئا حتى تحولت إلى
عرائض واحتجاجات كانت على أسس إسلامية شرعية، وكانت مطالب الحركة
"الوطنية":
1.
أن
يبقى الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكما للبلاد.
2.
إبعاد
المعتمد البريطاني الميجر "ديلي" عن أمور البلاد الداخلية.
3.
أن
يكون النظام قائماً على الشريعة الإسلامية والسنة المحمدية والمساواة.
4.
تأسيس
برلمان منتخب يراعي مصالح الناس.
5.
تشكيل
لجنة لمتابعة أمور الغوص.
وتم في الاجتماع اختيار أعضاء الحركة "الوطنية" من اثنا
عشر شخصاً يمثلون قطاعات المجتمع وهم: الشيخ عبدالوهاب الزياني، الشيخ عبداللطيف
المحمود ، السيد عبدالله بن إبراهي ، حسين بن علي المناعي، شاهين بن صقر الجلاهمة،
محمد بن راشد بن هندي، أحمد بن جاسم الجودر، عيسى بن أحمد الدوسري، أحمد بن لاحج
البوفلاسة، جبر بن محمد المسلم، مهنا بن فضل النعيمي، محمد بن صباح البنعلي.
فكانت هذه الحركة هي أولى الحركات الوطنية في البحرين ضد المستعمر
البريطاني الذي مارس كل أنواع التسلط والقهر على البحرين وأهلها. وقد تكون
مواقف وتضحيات الحركة الأولى كثيرة ولكن يكفينا موقفا واحداً حتى نرى ذلك السعي
الدءوب لنصـرة قضيتها، اجتماع واحد كان قد جمع بين الحركة متمثلة في رئيسها الشيخ
عبدالوهاب الزياني من جهة وبين قاضي البحرين آنذاك الشيخ قاسم المهزع من جهة أخرى.
في إحدى ليالي صيف 1923م وبعد عزل الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، ومنع
الشيخ بن مهزع من الحضور إلى المحرق والاتصال بالحاكم، كان الاجتماع الذي دونه
الخاطر في كتابه"القاضي الرئيس" في بيت الشيخ قاسم بن مهزع بالمنامة،
اجتمع الشيخ قاسم (الذي بلغ من العمر عتياً، ووهن عظمه وكف بصـره) مع ممثلين عن
الحركة وهم المجاهد الشيخ عبدالوهاب بن حجي الزياني، وأحمد بن لاحج البوفلاسة
وعبدالرحمن الوزان.
فتكلم
الشيخ الزياني عن أحوال البحرين وما آلت إليه الأمور، وكيف أن القوات البريطانية
بعد عزل الشيخ عيسى بن علي قد فرضت الأحكام العرفية على البلاد، ثم أخرج له
العريضة التي وقعها علماء البحرين وزعمائها طالباً منه التوقيع عليها، وأخبره أن
وكلاء الأمة قد قرروا رفع هذه العريضة إلى حكومة نائب الملك في الهند محتجين على
الإجراءات التي أقدمت عليها سلطة الحماية البريطانية في الخليج بتدخلها في شؤون
البحرين الداخلية، وعزلها حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، ومشاركة أهل
البلاد في سلطاتهم التشريعية والتنفيذية في بلادهم.
غير أن الشيخ بن مهزع كانت له وجهت نظر أخرى، فرفض التوقيع على العريضة
قائلاً: (إني أعلم بطبائع الإنجليز منكم)، فحاول الشيخ الزياني مرات ومرات أن يحصل
على توقيع ومهر الشيخ بن مهزع ولكن جميع محاولاته باءت بالفشل، فخرج الشيخ
عبدالوهاب ورفاقه من بيت الشيخ قاسم والعريضة بيده دون أن يوقعها أو يختمها الشيخ
بن مهزع بختمه الشهير، ولم يلتق الشيخ الزياني بالشيخ بن مهزع بعد ذلك اليوم.
بعد أيام من رفع العريضة دعا المعتمد البريطاني الميجر
"ديلي" أعضاء الحركة الإثنا عـشر في دار الاعتماد، وبعد ذلك الاجتماع تم
نفي الشيخ عبدالوهاب الزياني وأحمد بن لاحج البوفلاسة إلى الهند، فعاش المجاهد الشيخ
عبدالوهاب الزياني في بومبي يدافع عن قضيته حتى توفى بها عام 1925م.
لقد كان النفي هو نهاية الحركة الوطنية الأولى من قبل المستعمر
البريطاني، ولكنها قامت بواجبها، فإذا كانت أحداث 1955,54م وحركة الباكر هي التي
يكثر الحديث عنها وحوليها فإن الحركة الوطنية في سنة 1923م ونفي الشيخ عبدالوهاب الزياني وأحمد بن
لاحج البوفلاسة وتشديد الخناق على أعضاء الحركة الباقين، لهذه الأحداث أولى بأن
تعنى بالدراسة والبحث والتقصـي وذلك لنبل مقصدها ووضوح منهجها.
بقلم
: صلاح الجـودر
المصدر صحيفة الأيام
عدد 4546 تاريخ 14-8-2001م
تحت
عنوان: لله ثم للتاريخ
0 تعليقات