منزل بيكاسو (picasso) وسكة مالقة الأندلوسية

 


بقلم: صلاح الجودر

في نفس المنطقة التي سكنتها بمدينة مالقة الأسبانية التي زرتها في ربيع 2018 كان المنزل الذي وُلد فيه الفنان العالمي بيكاسو في العام 1881 بنفس المنطقة التي اخترتها للسكن، وقد تم تحويل بيته الذي ولد فيه إلى متحف يضم مجموعة من 285 عملًا تبرع بها أفراد عائلة بيكاسو، بالاضافة إلى أكثر من 800 عنوان في بيكاسو، ومقابل المتحف توجد حديقة ومجموعة من المقاهي ذات الخدمات العالية، والجميل أن الذي يعمل في تلك المطاعم مجموعة من العرب المغاربة الذين استمتعت بالحديث معهم بلغتنا العربية الجميلة، وكنت كثيرا اتردد عليهم للأحاديث الودية معهم.


منزل الفنان العالمي بيكاسو بمدينة مالقة، الفيديو تم تصويره 2018


وبعد زيارتي للفنان بيكاسو ضعت في أزقة مالقة

بعد رحلة استغرقت ثلاث ساعات ونصف بالقطار من العاصمة مدريد إلى مدينة مالقة التي يحدوني الأمل لرؤيتها منذ زمن بعيد، والمشي في دواعيسها وأزقتها وسكيكها، فقد نزلت بالمحطة التي تبعد 10 كيلومترات عن وسط المدينة التي أسست في العام 1000 ق.م على يد الفينيقيين الذين أسموها مالاكة، وهي كلمة إغريقية تعني الملح، حيث كانت الأسماك تملح على شواطئها، ثم استولى عليها الرومان في عهد الإمبراطور الروماني تيتوس في العام (79-81)، ثم دخل القوط إلى وسط مدينة مالقة في العام (623) حين غادرتها آخر القوات الرومانية، وفتح المسلمون مالقة على يدى عبدالأعلى بن موسى بن نصير في العام (713)، وبعد سقوط قرطبة استقل بها بنو حمود في العام (1016)، وتم إخضاع مالقة إلى حكم المرابطين في العام (1090)، وفي العام (1152) تسلم الموحدون المدينة، وفي عام (1227) وبعد ضعف الموحدين ضم محمد بن يوسف بن هود مالقة إلى مملكته وظل حاكمها حتى توفي، وفي (1486) سقطت المدينة في أيدي قشتالة التي سيطرت على مالقة بعد حصار طويل، وتقع مدينة مالقة التاريخية الأثرية في جنوب اسبانيا على البحر المتوسط، وهي قريبة جدًا من جبل طارق، ومناخها المعتدل يضفي عليها جمالًا وسحرًا، فإذا كانت مربيا مقصد الاثرياء من العرب فإن مالقة وجهة الأوروبيين.


قصبة مالقة تم تصويرها بالعام 2018

هذه هي أول زيارة لي لمدينة مالقة التي كانت جزء من الاندلس، فقد حجزت عبر الإنترنت غرفة في فندق صغير وسط المدينة، وقد سرني كثيرًا رؤية الطرقات الضيقة والملتوية وكأنها مدينة المحرق أو المنامة بالبحرين، والمنازل التي لا تتجاوز الثلاثة أدوار ذات الألوان الزاهية والجميلة، وقد مكثت ليلة واحدة في أحد الفنادق الصغيرة الذي فيه 6 غرف تطل نوافذها على الحوش الداخلي، فقد كان الفندق في الأصل منزل قديم تم ترميمه، والسبب الآخر حتى اتمكن من اكتشاف المدينة والبحث عن سكن آخر قريب من المطاعم والمقاهي.

وفعلا وجدت مرادي من السكن الجديد الذي نقلت له أغراضي والحقائب في ظهيرة اليوم الثاني، ولكني نسيت حذائي الرسمي الذي عدت له باليوم الثاني لأخذه، والجميل أن المدينة نظيفة ولها طابع خاص، فهي مدينة سياحية من الدرجة الأولى، فتفتح المحال والمطاعم والمقاهي عصرًا وتستمر إلى الساعات الأولى من الصباح حيث يخيم الهدوء صباحًا، ولا يشاهد بالمدينة صباحًا سوى عمال النظافة الذين يكنسون الشوارع ويغسلون الطرقات لاستقبال السياح وممارسي رياضة الجري والمشي، وبعد أن استقر بي المقام بالسكن الجديد بدأت في التجوال والترحال بالمدينة الجميلة الهادئة، ومن الاماكن التي قمت بزيارتها:


قلعة قصبة مالقة آثار الاندلس

في رحلة المشي والرياضة حيث لا ترى السيارات داخل الحواري والازقة بمدينة مالقة، فالجميع يمشي بالمدينة على قدميه، فقد قصدت أشهر معالم السياحة وهي (قلعة قصبة مالقة) التي بنيت على أيدي المسلمين في القرن الحادي عشر الميلادي، وتعتبر من أجمل الحصون في الاندلس ذلك الوقت، وتقع القلعة على تلة في وسط المدينة وتطل على الميناء البحري، وقد شاهدت قبل دخولي إليها سورين كبيرين وأبراجًا دفاعية قديمة، وعلمت أن بها اثني عشر بابًا ومئة وعشرة من الأبراج الكبيرة، وقد دخلت من أحدها بعد أن قطعت تذكرة الدخول، واعتقد أن بناء تلك البوابة على تلك الربوة لأسباب عسكرية، ولربما حتى يصعب اختراقها والدخول إليها.

وتذكر بعض المصادر أن الذي قام ببناء قصبة مالقة بني حمود في أوائل القرن الحادي عشر، وبنيت للوالي والحامية وأرباب الوظائف العليا، ففيها قصر الحاكم والمساجد والقصور ومجموعة من الحمامات، وقد تم تجديد القصبة على يد باديس بن حبوس من بني نصر ملك غرناطة الذي انتزعها من الحموديين في العام (1057ًًً)، اذ قام بتجديد القصبة تجديدا شاملا ووسع منشآتها حتى غدت من أعظم القصبات الأندلسية.

إن جمال قصبة مالقة تتمثل في المستويات المرتفعة التي بنيت عليه، ففي كل مستوى ترى الحدائق والنافورات والاستراحات والنقوش العربية والمزخرفة بالآيات الكريمة في عمارة إسلامية لا تزال تحتفظ بعبق تاريخها.

 

مدينة شعراء الأندلس

إن مدينة مالقة في فترة من فترات الاندلس كانت تعج بالأدباء والفقهاء والشعراء وقد جاء ذكرهم في كتاب (مطلع الأنوار ونزهة البصائر والأبصار فيما احتوت عليه مالقة من الأعلام والرؤساء والأخيار وتقييد ما لهم من المناقب والآثار)، ويحتوي على تراجم 173، وهو من تأليف الأديب أصبغ بن علي بن هشام المالقي، ولكن توفي قبل أن يكمله، ثم جاء ليكمله بعدها ذيل عليه أبو عبدالله محمد بن علي بن خضر بن هارون الغساني المشهور بابن عسكر، وهو الآخر توفي قبل أن يكمله، فجاء ابن اخته أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن خميس المالقي، والمعروف حاليًا بأدباء مالقة، وقد استطاع الانتهاء منه فكان مرجعًا كبيرًا.


السكة في مدينة مالقة، الصورة ألتقطت بالعام 2018

ومن شعراء الاندلس الشاعر أبو عبدالله محمد بن غالب الرصافي الأندلسي، الذي ولد وعاش في مدينة بلنسية، ثم تنقل بين مدينة مالقة وغرناطة ومكناس وسلا وفاس، وكان صاحب دكان في مالقة، فرأى غادة لمياء ذات خصر مياس نائمة، والعرق قد تصبب على خدها، فقال:

ومهفهف كالغصن إلا أنه

سلب الثني النوم عن اثنائه

أضحى ينام، وقد تصبب خده

عرقًا، فقلت الورد رُش بمائه

ومازالت مالقة تحتفظ بملامحها الأندلسية القديمة التي ناهزت الثمانية قرون.

إرسال تعليق

0 تعليقات