أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى
الله عز وجل فاتقوا الله رحمكم الله، قال تعالى: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39].
تأملوا معي - عباد الله - ونحن نستقبل العشـر من ذي الحجة إلى حجاج بيت الله الحرام، وهم يلبسون ثياب الإحرام، ويطوفون بالبيت العتيق، ويسعون بين الصفا والمروة، ويغتسلون بماء زمزم، لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج على قلب رجل واحد.
تأملوا فيهم وهم
يسعون في المشاعر المقدسة التي سار عليها أشرف الخلق والمرسلين،
وصحابته وآل بيته والتابعين لهم بإحسان، في طرقات مكة ومنى
وعرفات ومزدلفة، وأصوات الحجاج تسأل المولى الرحمة والغفران وتؤكد على توحيد الأولهية والربوبية والأسماء والصفات (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا
شريك لك).
الأمة هذه الأيام وهي تجدد العهد مع الله تعالى فإنها تقتبس من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من العبر والدروس، فقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة ليخطب في الناس بعد أن كمل
الدين وأرسيت قواعد الإسلام، واستقرت الشـريعة، قال تعالى: (ٱليومَ
أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) [المائدة: 3].
فبعد أن وقف على
جبل عرفة واستفتح بحمد الله قال: أما بعد - أيها الناس - اسمعوا مني أبين لكم،
فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.
أيها
الناس: إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في
شهركم هذا، في بلدكم هذا - ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها
إلى من ائتمنه عليها. وإن ربا الجاهلية موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم
لا تظلمون ولا تظلمون وقضى الله أنه لا ربا، وإن أول ربا أبدأ به عمي العباس بن
عبد المطلب.
وإن دماء الجاهلية
موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وإن مآثر الجاهلية
موضوعة غير السدانة والسقاية والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه
مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية، ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.
أيها الناس: إن
الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما
تحرقون من أعمالكم فاحذروه على دينكم.
أيها الناس: إنما
النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليوطئوا عدة
ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته
يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب
الله يوم خلق الله السماوات والأرض، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد، ذو
القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان - ألا هل بلغت.. اللهم
فاشهد.
أيها الناس: إن لنسائكم
عليكم حقاً ولكم عليهن حق، لكم أن لا يواطئن فرشهم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه
بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن
وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن
وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن
شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله
في النساء واستوصوا بهن خيراً، ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.
أيها الناس: إنما
المؤمنون إخوة ولا يحل لأمرئ مال لأخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت.. اللهم
فاشهد.
فلا ترجعن بعدى
كافراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده:
كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.
أيها الناس: إن
ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله اتقاكم،
وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.
أيها الناس: إن
الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية، ولا يجوز وصية في
أكثر من ثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر. من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير
مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل. قال
فليبلغ الشاهد الغائب. والسلام عليكم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم
ولسائر المسلمين، فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين،
والصلاة والسلام على أشرف الأنباء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين،
عباد الله، لقد حوت هذه الخطبة على الأسس
والمبادئ والقيم الإنسانية الراقية، حوت على العدالة والأنصاف والمساواة وحقوق
الإنسان، وعدم التميز والتفرق والطبقية، وحذر من سفك الدماء والقتل والعنف
والتخريب، وارتكاب المحرمات، وأوصى بالنساء خيراً، وأمر بحفظ الأموال والأرواح.
وأعظم الوصايا هي التمسك بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله)،
فما أصاب الأمة من وهن أو ضعف إلا بسبب بعدها عن كتاب الله، وفي الأخير أشهدهم صلى الله عليه وسلم على تبليغ دين الله فقال: (اللهم اشهد، اللهم اشهد ثلاثًا).
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وآمنوا بربكم،
وأطيعوا رسولكم، واستمسكوا بدينكم.
خطبة الجمعة 9 يولية 2021
جامع الخير قلالي
0 تعليقات