ثقافة التسامح والتعايش

 

 


أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله؛ فاتقوا الله الذي خلقكم، واستعينوا على طاعته بما رزقكم، فربُّكم جلَّت حكمته لم يخلقكم هملاً، ولم يترك أمركم في هذه الحياة مهملاً، بل خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.

أيها المسلمون، قال تعالى: هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهُم الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين [الجمعة: 2]، لقد أرسل الله تعالى لهذه الأمة نبياً ورسولاً يأمر بالعدل والقسط والإنصاف، وينهى عن الظلم والجور والتعدي، وهو الداعي للتعايش بين البشر: (لا فرق لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى) [مسند الإمام أحمد]، نبي هذه الأمة يدعو للتعايش الإنساني، والتسامح الديني بين البشر، باختلاف أديانهم ومعتقداتهم وألوانهم وألسنتهم، فالجميع من نفس واحدة، قال تعالى: يا أيُها الناسُ اتقُوا رَبَكمُ الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ [النساء: 1].

وعالم اليوم -عباد الله - أحوج ما يكون للتسامح الديني، فجميع الصراعات والحروب كان منشئوها التعصب الديني والتطرف المذهبي، أما اليوم والعالم يسعى للأمن والاستقرار بعد أن تحول إلى قرية صغيرة بسبب الفضاء المفتوح، وثورة التكنولوجيا، وتقنية المعلومات، فإن التسامح أصبح نقطة الارتكاز في العلاقات بين شعوب العالم، والإسلام بمبادئه وقيمه وتعاليمه قد ربى أتباعه على ثقافة الحوار والتسامح والتعايش مع المختلف عقائديا وفكرياً، فقد جاء عن نبيكم محمد  انه قال: (دخل رجل الجنة بسماحته) [صحيح الترغيب والترهيب للألباني].

عباد الله، لقد وجه القرآن الكريم الأمة الإسلامية إلى انتهاج مسلك التسامح مع المختلف، فقد قال تعالى في محكم التنزيل: لا ينهاكُم الله عن الذين لم يُقاتلُوكُم في الدينِ ولم يُخرِجُوكُم من دياركُم أَن تبرُوهُم وتُقسِطُوا إليهِم إِن اللهَ يُحبُ المُقسطينَ [الممتحنة: 8]، فالبر والقسط والتسامح يكون مع الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم، فما بالكم مع إخوانكم في الدين والبشرية؟!.

فالاختلاف يجب أن يكون سببا للتعارف والتآلف لا سبباً للشقاء والخلاف، لذا قال تعالى: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالُونَ مُختلفينَ * إلاَ من رحِمَ ربُك ولذلك خلقهم [هود: 118-119]، فالاختلاف بين الشعوب والقبائل يجب أن يكون من أجل التعارف والتعاون والعمل المشترك، قال تعالى وجعلناكُم شُعُوباً وقبائلَ لتعارفُوا [الحجرات: 13].

عباد الله، الإسلام هو الذي أطلق الدعوة الأولى والصريحة لأتباع الديانات الأخرى للتسامح والتحاور: قُل يا أَهلَ الكِتابِ تَعالوا إِلى كلِمةٍ سواءٍ بيننا وبينكُم نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64]، ثم أوضح لأتباعه منهج التحاور والمجادلة: ولا تُجادِلُوا أهـلَ الكتابِ إلا بالتـي هي أحسنُ إلا الذين ظلمُوا منهُم وقُولُوا آمنا بالذي أُنـزِل إلينا وأنزِل إليكُم وإلهُنا وإِلهُكُم واحِد ونحنُ له مُسلِمُون [العنكبوت: 46].

ولتوضيح أسباب التسامح فإن الأديان السماوية جميعها من مشكاة واحدة، قال تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك [البقرة: 128]، وعلى لسان إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: يا بنيَ إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [البقرة: 132]، وجاء على لسان الحواريين رضي الله عنهم قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون [المائدة: 111]، وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم مع أمته يصفهم المولى في تلك السلسلة المتصلة بإبراهيم عليه السلام-: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله لا نفرق بين أحد من رسوله [البقرة: 285].

أيها الإخوة المؤمنون: سار أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب  كعادته في شوارع المدينة المنورة يتفقد أحوال الرعية، فرأى شيخاً طاعناً في السن يتسول في الطريق، فسأل عن أمره، فأخبر أنه يهودي، فحزن الفاروق عمر  لما أصاب هذا الشيخ الهرم مما اضطره إلى التسول، وأمر بأن يُخصص له من بيت مال المسلمين راتباً شهرياً، وعلاوة معيشية ليتيح له الحياة الكريمة، لم ينظر الفاروق عمر  إلى دينه ولا إلى معتقده ولا إلى عرقه، ولكن نظر إليه نظرة الإنسان إلى أخيه الإنسان، فعمر هو صاحب المقولة المشهور: (لو أن بغلة عثرت بأرض العراق لخشيت الله أن يسألني عنها يوم القيامة)، فما بالكم بأخيه الإنسان؟!، عمر الفاروق ينصر المظلوم، ويقف مع الضعيف، ويدافع عن حقوق الإنسان، ويخشى تعثر بغلة في أقصى الأرض، فأين منظمات حقوق الإنسان لتتأمل هذه السيرة العطرة؟!.

عباد الله، إننا اليوم في حاجة ماسة لإشاعة ثقافة التعايش السلمي والتسامح بين البشر، فنحترم أديان الآخرين، وشعائرهم وممارساتهم، فهذا الفاروق عمر يطبق التسامح الديني بتقديم الوثيقة العمرية للنصارى في بيت المقدس قائلاً فيها: (أن لا تسكن مساكنهم ولا تهدم ولا ينقص من أموالهم شيء ولا يكرهون على دينهم).

إرسال تعليق

0 تعليقات